Articles

قصة الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي في لبنان

 المصدر: موقع الريادي

 

بقلم د. عطية المعلم 

ما نشهده في لبنان اليوم هو نتيجة تفاوت كبير بين السياستين النقدية والاقتصادية التي هي أساس المشكلة التي وصلنا اليها، والطامة الكبرى هي ما نحن عليه من عجز وتراكم هائل للديون، وهذه الحالة قد تكون الأسوأ في تاريخ اقتصاد لبنان. وبالعودة 30 سنة الى ما بعد انتهاء كابوس الحرب الأهلية، نرى كابوساً آخر حلّ على اللبنانيين وهو تولي الحكم من قبل ملوك الحرب ورؤساء الميليشيات، الذين خلعوا بزاتهم العسكرية ولبسوا البدل المدنية و"الكرافاتات" وتمركزوا في الحكم بالتوافق في ما بينهم، من خلال اتفاق الطائف الذي لم يطبق تماماً حتى اليوم، وألغوا مفهوم الديموقراطية القائمة على مبدأ الحكم والمعارضة التي تراقب وتحاسب، واستقرّ الوضع على "تركيبة" تخدم منافع ومصالح السياسيين وزعماء الطوائف. 

وكانت بداية هذه التركيبة الانقلاب على حكومة الرئيس الحصّ الذي يُشهد له بالمناقبية والشفافية، وحلّت مكانها حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري منذ العام 1993، والذي تصوره الناس أنه سيكون منقذ البلد، لكن للأسف العكس كان صحيحاً حيث أضرت سياساته بالبلد حتى يوم استشهاده، وما زالت تداعيتها السلبية مستمرّة حتى اليوم، بكل ما فيها من فساد متعاظم عبر وزراء ومدراء وموظفين تابعين من كل قطاعات الدولة، أصبح معظمهم أغنياء ووجهاء، مما فتح شهيّة العديد من موظفي الدولة للسير على نهج الاستزلام وفي "الأسلوب الأنيس في مخاطبة الرئيس"!. 

 

منابع الدولار

وكأي بلد خارجٍ من حرب مدمّرة حيث لا بنى تحتية ولا اقتصاد ولا سياحة ولا صناعة ولا ثروات طبيعية او بترولية، اضطر لبنان للاعتماد بشكل شبه كلّي على الاستيراد المستنزف للعملة الصعبة، والأصعب منها الحصول عليها!

وفي الفترة الأولى من تولي الرئيس الحريري، تدفقت أموال ضخمة من الخليج للاستثمار في "سوليدير"، مع التحفظ الكبير على هذا المشروع - الاستيلاء على قلب عاصمة لبنان، حيث سلبت أملاك وأرزاق حوالي 60 ألف عائلة بيروتية. هذه "الغنيمة" لم تستمرّ أكثر من 4 سنوات، حتى بدأت رحلة الاستدانة عبر "باريس 1" و 2 و3 مما أوقعت البلد في ديون قياسية بكل ما فيها من أعباء وخدمة دين أجنبي، إضافة الى سندات خزينة بالليرة وصلت عوائدها الى 35% و40% وكبّدت الدولة خسائر طائلة.

والمشكلة الكبرى أننا كنّا نستدين هذه الأموال ليس للإنتاج بل لتغطية عجز الموازنات، دون أي استراتيجية أو خطة ترفع معدل ونسب النمو بما يكفي لتسديد الدين وفوائده الضخمة التي وصلت اليوم الى حوالي 3 مليارات دولار سنوياً، جعلت البلد أسير القوى السياسية العالمية. وكاد الوضع يتحوّل في حينه الى كارثة مالية، لولا ما تدفق الى البلد من أموال إعادة الإعمار بعد حرب تموز 2006، إضافة الى حوالي 24 مليار دولار ودائع إغترابية وعربية تحولت الى مصارف لبنان خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، وكما في المثل القائل "مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد". 

 

بداية النهاية!

وكانت نقطة التحول عام 2011، عند انفجار الأوضاع الإقليمية، من حرب سوريا التي أغلقت سبل تصدير المنتجات اللبنانية خصوصاً الزراعية الى العراق والإمارات والسعودية وسواها، ومعها الانكماش الاقتصادي في دول الخليج الذي أدى الى تراجع مداخيل اللبنانيين العاملين فيها وتحويلاتهم الى لبنان، فضلاً عن ركود اقتصادي في الداخل. كلّ هذه العوامل أثّرت سلباً على البلد خصوصاً أنها تراكمت على سياسات مالية ونقدية واقتصادية متعثرة كانت وما زالت موارد العملة الصعبة تقتصر فيها على خدمة الدين العام وعجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات. وبداية من العام 2016 أخذت المشكلة تتوسع خصوصاً بعد تعثّر بعض المصارف اللبنانية الكبرى، حيث اضطر حاكم مصرف لبنان الى صياغة هندسات مالية رفعت الفوائد بغرض اجتذاب الودائع الى المصارف، الأمر الذي شجع المستثمرين على الاقتصاد الريعي بدلاً من الإنمائي والإنتاجي، وصولاً الى العام الماضيحيث أقرّت هندسات مالية جديدة حققت فيها المصارف فوائد عالية وأرباح مجزية زادت في أعباء المديونية العامة وساهمت الى حدّ بعيد في الوضع المأساوي الذي نشهده اليوم. 

 

التثبيت بأكلاف عالية

ورغم كل ما سبق من كوارث مالية طوال أكثر من ربع قرن، استمرت سياسة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار وبأكلاف عالية، في إجراء  كان يمكن أن يكون فعالاً لولا غياب خطة اقتصادية إنمائية مترافقة مع تطوير البنى التحتية، في حين كان من  الأفضل تحرير سعر الصرف على قاعدة العرض والطلب، التي استبدلتها الدولة بالتواطؤ التام لإيصال البلد الى العجز، وبما يرضي الدول المانحة ويضع لبنان في حصار شبيه بما حصل في فنزويلا، وصولا الى ما نشهده اليوم من ركود تضخمي أو Stagflation، حيث الأسعار الى ارتفاع، والمداخيل الى هبوط، والشركات تعلن إفلاسها، وفي حلقة مفرغة الى المزيد من الانهيارات.

 

القطاع المصرفي الى أين؟

وفي غمرة هذه المأساة الاقتصادية والمالية كان القطاع المصرفي الذي هو "عامود الاقتصاد اللبناني" يستسهل الطريق بفوائد عالية من القروض للدولة ومن ودائع الناس، بدلاً من تمويل المشاريع الإنتاجية التي تحرك الاقتصاد وتوفر فرص العمل، وفي رهانٍ خاطئ بأن الدولة لن تعلن إفلاسها. وكل ذلك لم يكن الا على حساب المودعين المقيمين والمغتربين الذين وضعوا ثقتهم بوطنهم، علماً أن 85% من الودائع التي يبلغ عددها 2 مليون و200 ألف حساب هي لصغار المودعين، وفي وضع باتت الدولة خلاله عاجزة عن سداد ديونها، التي حصد منها القطاع المصرفي أرباحاً ارتفعت عام 2018 بشكل صاروخي الى مليارين و800 مليون دولار، بعد أن كانت لا تتعدى الـ 14 مليون دولار في السنوات السابقة.

 

ذاب الثلج وبان المرج

والآن وقد جفت جميع الينابيع التي كانت تتدفق على لبنان بالدولار، بدأ الرهان أخيراً على "مؤتمر سيدر" الذي ما زال "تحت النظر"! لدولة تتعثر بأزماتها .. وذاب الثلج وبان المرج وتعرت الدولة، ونشبت ثورة 17 تشرين، ومعها فقدان الثقة بمستقبل البلد ترافقت مع هجمة كبرى لسحب الودائع (Bank Run)، حتى أصبحت الودائع في المنازل بحوالي الـ 4 مليار دولار. في حين أن أي مصرف في العالم لا يستطيع تلبية هكذا هجمة لأن الودائع عادة لا تكون جاهزة بل موظفة بشكل قروض. وزاد في إشعال حدّة الوضع الحملات الإعلامية المحلية والغربية التي استهدفت الثقة ما تسبب بخفض التصنيف السيادي للبنان وبعض المصارف التي رغم كل شيء ما زالت صامدة، وتحاول تلبية الناس قدر المستطاع رغم تراجع الإيداعات الى الحدّ الأدنى. وأي ضبط في عملية السحب (Capital Control) إنما هو لحماية المصارف من الإفلاس وبالتالي حماية المودعين. 

 

وبانتظار المعجزة

كل الأنظار تتجه اليوم الى حكومة الأخصائيين الجديدة، والى خطة اقتصادية مبتكرة لا يتعدى تنفيذها الـ 3 سنوات، مع وضع ضوابط للتحويل الى الخارج (Capital Control) لفترة محددة، وهذا ما قامت به البرازيل التي رفضت اقتراحات صندوق النقد الدولي بتعويم عملتها، وإيقاف الدعم على العديد من السلع الأساسية وخصخصة مؤسساتها الحكومية، وانكبت على الإنتاج في إجراءات إنقاذية جعلت منها سادس دولة صناعية في العالم. فيما الدولة اللبنانية إن لم تقم بالإصلاحات الضرورية، قد تضطر الى تحويل ودائع الدولار الى الليرة، وهذا سوف يؤدي حتماً الى التضخم الجامح وخراب البلد الى أبد الآبدين.

 

Related Articles